معركة الأجور في الصحافة المصرية| صراع البقاء في مهنة تُحاصرها الأزمات وتخنقها السلطة
الخميس - 4 ديسمبر 2025
- من «الوفد» إلى الصحف القومية.. شرارة احتجاجات تؤسس لمرحلة جديدة من مقاومة السيطرة الأمنية
- انهيار اقتصادي يضرب المؤسسات الصحفية.. خسائر 13 مليار جنيه والرواتب لا تضمن حياة كريمة
- نصف المؤسسات بلا لوائح أجور و72% من الصحفيين تحت الحد الأدنى و27% يواجهون الفصل التعسفي
"إنسان للإعلام"- فريق التحرير:
في ظلّ تصاعد الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمصر، تعاني قطاعات عديدة من ضغوط متزايدة تؤثر في قدرتها الإنتاجية واستقرارها المالي.
ومن بين هذه القطاعات، تبرز مهنة الصحافة كواحدة من أكثر المهن التي طالتها التداعيات القاسية للأزمة، إذ يجد الصحفيون المصريون أنفسهم في مواجهة تدهور اقتصادي حاد، ينعكس مباشرة على تدني الأجور وتخلّف مؤسسات صحفية كثيرة عن الوفاء بحقوقهم المالية الأساسية.
ومع تفاقم الأوضاع، ارتفعت الأصوات المطالِبة بتحسين ظروف العمل وضمان حقوق الصحفيين، حيث يخوض الصحفيون معركة شاقة لانتزاع حقوقهم المالية في مواجهة مؤسسات صحفية ترزح هي الأخرى تحت أعباء اقتصادية ثقيلة.
وقد شهدت مؤسسات مثل: الوفد والبوابة ونيوز والدستور وصدى البلد، إلى جانب عدد من الصحف القومية، صدامات متكررة بين الصحفيين وإدارات هذه المؤسسات للحصول على الحد الأدنى للأجور المقرر في مصر والبالغ سبعة آلاف جنيه.
وتأتي هذه المعركة في وقت حساس، يتزامن مع ارتفاع معدلات التضخم وتزايد الأسعار، ما يزيد من صعوبة توفير حياة كريمة للصحفيين وأسرهم. من خلال هذا التقرير، نرصد ملامح هذه المعركة، وأسبابها، ومساراتها المتصاعدة.
واقع اقتصادي مأزوم
رغم الحملات الإعلامية التي قادتها العديد من الصحف والفضائيات للترويج لما يوصف بـ«الإنجازات الاقتصادية» المنسوبة إلى السيسي ونظامه، فإن هذه الوسائل الإعلامية نفسها لم تكن بمنأى عن تداعيات الأزمة الاقتصادية المتصاعدة، بل أصبحت مهددة بالإغلاق في بعض الأحيان.
وقد انعكست آثار الأزمة الاقتصادية على الصحافة المصرية في عدة مظاهر رئيسية؛ أبرزها: تراجع الإيرادات بشكل ملموس، وخصوصًا إيرادات الإعلانات التي تُعدّ المصدر الأهم لتمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، حيث تفاقم هذا التراجع بعد سيطرة شركات محسوبة على الأجهزة السيادية على سوق الإعلانات، ما أدى إلى حرمان المؤسسات الصحفية المستقلة من جزء كبير من مواردها.
كما أدى ضعف التمويل إلى توقف العديد من الصحف والمجلات عن الصدور نهائيًا، بينما اضطرت صحف أخرى إلى تقليص عدد صفحاتها، وهو ما ساهم في انحسار دور الإعلام الورقي داخل مصر.
وزاد من حدة الأزمة هيمنة الجهات السيادية على ملكية المؤسسات الإعلامية، الأمر الذي أحكم الرقابة الحكومية على المحتوى الصحفي، وقلّص مساحات الحرية، وحوّل بعض الصحف إلى أدوات دعائية للسلطة في ظل محدودية الاستثمارات الحقيقية في هذا القطاع.
ومن بين أبرز انعكاسات الأزمة أيضًا تراكم الديون على المؤسسات الصحفية القومية، التي تجاوزت 13 مليار جنيه، ما جعلها مهددة بالخصخصة أو التصفية، مع تعريض مستقبل آلاف العاملين فيها للخطر، فضلًا عن حرمان عدد كبير من الصحفيين المؤقتين من فرص التعيين.
وفي ظل سياسات تقييد الحريات الصحفية وارتفاع معدلات التضخم، شهدت مختلف الصحف المصرية تراجعًا حادًا في معدلات التوزيع، فلم يعد توزيع 50 ألف نسخة يوميًا رقمًا متحققًا لدى أي مؤسسة صحفية كبرى، بينما لم يتجاوز توزيع الصحف المستقلة خمسة آلاف نسخة يوميًا، في حين لم تعد أي مجلة أسبوعية تتخطى توزيع ألف نسخة، بما في ذلك النسخ المجانية.
وقد أكد التقرير السنوي للإحصاءات الثقافية الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء هذا التراجع، مشيرًا إلى أن إجمالي عدد النسخ اليومية الموزعة من الصحف الصادرة باللغة العربية لم يتجاوز 351 ألف نسخة فقط، مع احتساب النسخ المخصصة للجهات الحكومية، وذلك في بلد يتجاوز عدد سكانه 110 ملايين نسمة.
الصحفيون ومعركة الأجور
في ظلّ ما يعيشه الصحفيون المصريون من أوضاع اقتصادية متدهورة، ومع رواتب لم تصل حتى إلى الحد الأدنى للأجور الذي أعلنته الحكومة والبالغ 7 آلاف جنيه (نحو 149 دولارًا شهريًا)، دفع ذلك عددًا منهم إلى الاحتجاج والتحرك لإجبار إدارات الصحف على رفع رواتبهم.
وبدأت شرارة المعركة من داخل جريدة وموقع «الوفد» الصادر عن حزب «الوفد»، أحد أقدم الأحزاب السياسية المصرية، حيث خاض الصحفيون منذ عام 2023 جولة طويلة من التفاوض لتحسين أجورهم التي لم تكن تتجاوز ما بين 1400 و2400 جنيه فقط.
ومع استمرار الضغوط والمفاوضات، أقرت الإدارة زيادات تراوحت بين 800 و2000 جنيه على ثلاث مراحل، غير أن الأزمة لم تُحلّ جذريًا.
ومع حلول يونيو 2025، خاض صحفيو «الوفد» معركة جديدة للضغط على الإدارة من أجل تطبيق الحد الأدنى للأجور، ونظّم العاملون في الجريدة اعتصامًا طالبوا فيه برفع الرواتب إلى 7 آلاف جنيه.
وتضامنت نقابة الصحفيين معهم وشاركت في الاعتصام، الذي تكرر مرات عديدة في ظل تعنت قيادات حزب الوفد، وفي نهاية المطاف، نجح صحفيو «الوفد» في انتزاع حقهم بعد تصعيد استمر نحو خمسة أشهر، أجبر الإدارة على الانصياع لمطالبهم.
وفي السياق نفسه، يخوض صحفيو «البوابة نيوز» معركة مشابهة للحصول على الحد الأدنى للأجور، لكن عبد الرحيم علي، رئيس مجلسي الإدارة والتحرير، المحسوب على الجهات الأمنية والممول من الإمارات، رفض الاستجابة لمطالب الصحفيين.
وجاء في بيان أصدره صحفيو «البوابة» أنهم، بعد أكثر من عشر سنوات من العمل اليومي الشاق، ما زالوا يتقاضون رواتب لا تتجاوز 2000 جنيه (نحو 40 دولارًا)، واصفين هذا الوضع بأنه «مهين ومستفز»، خصوصًا في ظل موجة الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة.
وأكد البيان أن الإدارة تواجه «صرختهم المستحقة» بصمت متعمد وتجاهل متغطرس، مذكرين بأنها ليست آلات إنتاج تُستنزف دون حق أو كرامة، بل هم من رفعوا اسم المؤسسة، وصنعوا محتواها، وبنوا جمهورها.
وشددوا على أنهم لا يطلبون صدقة أو منّة، بل يطالبون بتطبيق القانون وصرف حقوقهم المهدرة عبر سنوات من الاستغلال.
وحمل الصحفيون إدارة «البوابة» المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع، وعن أي تصعيد قد يلجأون إليه دفاعًا عن كرامتهم وحقهم في الحياة.
ومع تعنّت الإدارة، اتسعت أزمة «البوابة نيوز» عقب إعلان عبد الرحيم علي رفع اسمه من ترويسة الجريدة والموقع الإلكتروني، مؤكدًا في مقاله الأخير بعنوان «البوابة.. سراب الزمان الجميل» أنه سبق وتقدم باستقالته إلى الجمعية العمومية.
تزامن ذلك مع استمرار اعتصام الصحفيين داخل مقر المؤسسة للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، لليوم السابع على التوالي.
وتشكل استقالة «علي» التطور الأبرز في سلسلة أحداث متلاحقة داخل المؤسسة، حيث ينفذ الصحفيون منذ 17 نوفمبر 2025 اعتصامًا مفتوحًا، وفي الوقت نفسه أعلنت الإدارة أنها بصدد إغلاق المؤسسة بالكامل.
كما أعلنت إدارة الجريدة والموقع عن وجود مقترح «مبدئي» تم التوافق عليه بوساطة نقابة الصحفيين لتطبيق الحد الأدنى للأجور، لكنّ التصعيد ما زال مستمرًا بسبب إصرار عبد الرحيم علي على إغلاق الصحيفة.
ولا يختلف المشهد كثيرًا في موقع «صدى البلد»، حيث يواجه الصحفيون تعنتًا كبيرًا في الحصول على حقوقهم من صاحب المؤسسة، رجل الأعمال والبرلماني محمد أبو العينين، المقرّب من النظام المصري، والذي رفض الاستجابة لمطلب رفع الرواتب. بل تجاوز الأمر ذلك إلى فصل عشرات الصحفيين والعاملين فصلًا تعسفيًا، ثم الإعلان عن قبول صحفيين جدد للعمل بالموقع بشروط مالية تحددها الإدارة دون التزام بأي معايير أو حقوق.
أزمة الصحفيين المؤقتين
في إطار سعي الصحفيين إلى انتزاع حقوقهم، شهدت الصحف القومية تصعيدًا واسعًا من جانب الصحفيين المؤقتين الذين لم يتم تعيينهم منذ 14 عامًا، ويعملون طوال هذه المدة دون أي عقود رسمية أو التزامات قانونية تحفظ حقوقهم.
ولم يتوانَ هؤلاء الصحفيون عن المطالبة بحقهم في التعيين، فقادوا حملات متتالية بدأت عبر الفضاء الإلكتروني تحت هاشتاج "حق_المؤقتين_في_التعيين_بالصحف_القومية"، وهو ما لاقى تضامنًا واسعًا من مئات الصحفيين، خاصة عقب فوز خالد البلشي بمنصب نقيب الصحفيين وإعادة انتخابه في مايو/أيار الماضي.
ومع تزايد الزخم الإلكتروني، انتقل صوت الصحفيين المؤقتين إلى الاحتجاج الميداني؛ إذ نظموا سلسلة من الوقفات الاحتجاجية، كانت أولها في 28 فبراير/شباط 2024 أمام مبنى النقابة، بحضور نقيب الصحفيين، ورفعوا لافتات كتب عليها: «عمرنا راح في الصحافة القومية».
كما شهد المؤتمر العام السادس للصحفيين حضورًا قويًا للمؤقتين، وتضامنًا واسعًا من جانب الصحفيين المشاركين، ودُشنت حملة تدوين كبيرة دعمًا لمطالبهم.
ورغم الوعود المتكررة من الهيئة الوطنية للصحافة بتعيين المؤقتين على مراحل، فإن هذه الوعود لم تُنفذ حتى الآن. وقد سعت نقابة الصحفيين عبر مسارات متعددة لتحريك هذا الملف؛ فبناءً على المذكرة المقدمة من الصحفيين المؤقتين، أرسلت النقابة خطابًا رسميًا إلى رئيس مجلس الوزراء، أكدت فيه ضرورة اتخاذ قرارات عاجلة لمعالجة الأزمة، غير أن الحكومة نكثت تعهداتها ولم تحل المشكلة حتى الآن، بينما لا يحصل هؤلاء الصحفيون على أجور تكفي حتى الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية.
"البدل" والضغوط الحكومية
وفي سياق معاناة الصحفيين المالية التي دفعتهم إلى خوض معركة رفع الأجور، يبرز ملف بدل التدريب والتكنولوجيا باعتباره أحد أبرز جوانب الأزمة، فعلى الرغم من الزيادة المحدودة التي طُبّقت بعد فوز النقيب خالد البلشي بدورة ثانية، فإن الكثيرين اعتبروها عقابًا للصحفيين؛ إذ أعلن مرشح النظام آنذاك، عبد المحسن سلامة، أن الزيادة ستتجاوز 1200 جنيه، لكن بعد فوز البلشي لم تُقر سوى زيادة قدرها 600 جنيه فقط، ليصل إجمالي البدل إلى 4500 جنيه، وهو مبلغ لا يقترب حتى من الحد الأدنى للأجور.
وتشهد انتخابات نقابة الصحفيين عادة مزايدات واسعة حول «البدل»، وإن كانت أصوات صحفية باتت تؤكد في الآونة الأخيرة انتقاله من مجرد ورقة انتخابية إلى استحقاق نقابي ينبغي الدفاع عنه.
ومع ذلك، يبقى بدل التدريب والتكنولوجيا، الذي أصبح مصدر دخل أساسيًا للصحفيين، غير كافٍ لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة التي يستحقونها.
تدهور أوضاع الصحفيين
توالت استطلاعات الرأي التي تكشف واقع الدخل المادي للصحفيين خلال العامين الماضيين، وقد أظهرت جميعها تدهورًا مستمرًا في الوضع الاقتصادي لأصحاب المهنة.
وفي هذا السياق، كشف استبيان لنقابة الصحفيين أُجري خلال انعقاد المؤتمر السادس عام 2024، وشمل 1568 صحفيًا، أن أكثر من نصف المؤسسات الصحفية (51.8%) لا تمتلك لائحة أجور واضحة، في حين أن النسبة الأكبر (50.5%) لا تطبق الحد الأدنى للأجور الذي حددته الدولة بـ7 آلاف جنيه، بينما تطبق نسبة قليلة جدًا (27.9%) الحد الأدنى بشكل كامل.
وأشار الاستبيان إلى أن نسبة كبيرة من الصحفيين تتقاضى أجورًا أقل من الحد الأدنى؛ إذ لا يتلقى 13.1% منهم أي أجر على الإطلاق، بينما يحصل آخرون على مبالغ تتراوح بين جنيه واحد و1000 جنيه، فيما يتقاضى 72% رواتب تقلّ عن الحد الأدنى.
كما كشف الاستبيان أن 27% من الصحفيين تعرضوا للفصل التعسفي، وأن نظرة تشاؤمية باتت تسيطر على تقييم الصحفيين لدور مهنتهم وقدرتها على التأثير؛ إذ يرى 57.3% أن الصحافة لا تقوم بأي دور فعّال، بينما يرى 28.8% أنها تقوم بدور محدود، في حين يؤمن 13.9% فقط بأنها ما زالت تحتفظ بتأثيرها.
وبيّن الاستطلاع أن 88.4% من الصحفيين غير راضين عن آلية اختيار القيادات الصحفية، مقابل 11.6% فقط أعربوا عن رضاهم. كما كشف أن 52.5% من الصحفيين تعرضوا لأشكال مختلفة من العنف أثناء ممارستهم للعمل، بسبب مطالبتهم بحقوقهم المالية والأدبية.
وتنوع هذا العنف بين عنف نفسي (42.1%)، وعنف لفظي (31.6%)، وعنف جسدي (13.8%)، إضافة إلى تضييقات أمنية وتهديدات.
ومن جانبه، أجرى د. حماد الرمحي، عضو مجلس النقابة السابق، دراسة ميدانية في نوفمبر 2025 بعنوان «دراسة صادمة تكشف واقع الصحفيين في مصر»، شملت مئات الصحفيين؛ منهم نحو 57% يعملون في الصحف القومية، و32% في الصحف الخاصة، و11% في الصحف الحزبية.
وكشفت الدراسة أن 86% من الصحفيين ما زالوا على رأس عملهم، بينما يعاني نحو 15% من التعطل التام؛ منهم 10% متعطلون قسرًا بسبب الاستبعاد أو الفصل التعسفي بالمخالفة للقانون.
وتُظهِر النتائج فجوة ضخمة بين الأجر الفعلي والأجر اللائق؛ إذ يتقاضى 19% من الصحفيين رواتب تتراوح بين 1000 و3000 جنيه فقط، ما يضعهم فعليًا تحت خط الفقر، كما يتقاضى 21.5% رواتب بين 3000 و5000 جنيه، وهي رواتب لا تضمن الحد الأدنى لحياة كريمة.
وفي المقابل، يحصل 34.7% على رواتب تتراوح بين 5000 و10000 جنيه، بينما لا تتجاوز نسبة من يحصلون على أكثر من 10000 جنيه 4% فقط.
والأخطر أن 20% من الصحفيين لا يتقاضون أي أجر رغم ممارستهم العمل، وهو ما يعكس تكريسًا لنمط «العمل بلا مقابل» داخل سوق العمل الصحفي.
كما بيّنت الدراسة أن ما يقرب من 40% من الصحفيين يعملون برواتب أقل من 5000 جنيه، مقابل أقلية لا تتجاوز 4% تتقاضى 5000 جنيه فأكثر.
كما كشفت الدراسة أن 84% من الصحفيين يرون أن أجورهم لا توفر لهم حياة كريمة، بينما رأى 2% فقط أن رواتبهم جيدة وكافية. أيضا يرى 45% من الصحفيين أن الحد الأدنى للحياة الكريمة يجب أن يتراوح بين 10 و20 ألف جنيه شهريًا، بينما يرى 47% أن الراتب العادل يجب أن يتجاوز 20 ألف جنيه، في حين وافق 8% فقط على الاكتفاء بالحد الأدنى الرسمي البالغ 7 آلاف جنيه.
وتشير النتائج إلى أن 91% من الصحفيين يعتقدون أن «المرتب اللائق» لا ينبغي أن يقلّ عن 10 آلاف جنيه شهريًا، وأن نصفهم تقريبًا يرى أن الراتب العادل يجب أن يتجاوز 20 ألف جنيه، ما يعكس اتساع الفجوة بين الأجر الفعلي والحد الأدنى للحياة الكريمة.
ولا تتوقف الأزمة عند الرواتب الشهرية، بل تمتد إلى نهاية المسار المهني؛ إذ أظهرت الدراسة أن 65% من الصحفيين يعملون في مؤسسات تُقرّ نظريًا بمكافأة نهاية الخدمة، بينما يؤكد 35% أنهم لا يحصلون على أي مكافأة.
كما يؤكد 60% أن المكافأة التي يحصلون عليها ضعيفة وغير كافية، بينما قال 40% إنهم لا يحصلون على مكافأة أصلًا، أما من يعتبرون مكافأتهم «كافية» فلا تتجاوز نسبتهم 4% فقط، ما يعني أن أكثر من 95% من الصحفيين يخرجون من المهنة بلا أي حماية حقيقية أو مقابل يليق بعقود من العمل في خدمة الصحافة والدفاع عن الحقيقة.
المؤسسات لا تلتزم بالتشريعات
هناك مجموعة واسعة من التشريعات التي تضمن للصحفيين أجرًا مناسبًا وحماية مهنية، إلا أن معظم المؤسسات الصحفية لا تلتزم بتطبيقها؛ فقانون العمل الجديد رقم 14 لسنة 2025 يتضمن مواد واضحة تُلزم المؤسسات الصحفية، أسوة بغيرها من قطاعات الدولة، بتطبيق الحد الأدنى للأجور الذي يقرره المجلس القومي للأجور. وتنص المادة (102) من القانون على التزام المجلس بتحديد حد أدنى للأجور يتناسب مع تكاليف المعيشة المتزايدة، فيما تؤكد المادة (104) إلزام جميع المنشآت بتنفيذ تلك القرارات وعدم الانتقاص منها تحت أي ظرف، غير أن معظم المؤسسات الصحفية، بما فيها المؤسسات القومية، لم تلتزم فعليًا بهذه القواعد، بحسب مصادر صحفية داخل هذه المؤسسات.
ولم يكتفِ القانون بتحديد حد أدنى للأجر، بل فتح المجال أمام المؤسسات لرفع نسبة العلاوة الدورية متى سمحت أوضاعها المالية، مع التأكيد على صرفها في موعد ثابت سنويًا، بما يضمن استقرار دخل العاملين وعدم تراكم المستحقات، ويسهم في ضبط منظومة الأجور في القطاعين العام والخاص.
وبموجب القانون ذاته، ارتفع الحد الأدنى لأجر الدرجة الممتازة ليصل إلى 13,800 جنيه شهريًا، بينما بلغ الحد الأدنى لأجر الدرجة العالية 11,800 جنيه، وشملت الزيادات بقية الدرجات لتبدأ من 7,000 جنيه للدرجات الأقل، مع إضافة علاوات دورية واستثنائية، وقد بدأ تطبيق هذه الزيادات اعتبارًا من 1 مارس 2025.
كما نص قانون 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، في الفصل الثاني الخاص بحقوق الصحفيين والإعلاميين، على ضوابط إضافية لحماية حقوق العاملين، فالمادة (14) تنص على أن العلاقة بين العاملين بالصحف ووسائل الإعلام وجهات العمل التي يعملون بها يجب أن تُنظَّم وفق عقد عمل يحدد نوع وطبيعة العمل، ومكانه، والمرتب وملحقاته، والمزايا التكميلية، وآليات الترقيات والتعويضات، على ألا يتعارض ذلك مع عقد العمل الجماعي عند وجوده، ولا تصبح هذه العقود نافذة إلا بعد تصديق النقابة المعنية عليها، مع سريان أحكام قانون العمل فيما لم يرد بشأنه نص خاص، لضمان أن تكون النقابة ضامنًا أساسيًا لحقوق الصحفيين.
أما المادة (15) فقد ألزمت المؤسسات الصحفية والإعلامية، بالتعاون مع النقابة، بإنشاء وتمويل صناديق للتأمين ضد العجز والبطالة، بقرارات من جمعياتها العمومية، على أن تحدد اللوائح الداخلية لكل صندوق قواعد اشتراك العاملين وشروط صرف التأمين في حالتي العجز أو البطالة.
وفي سياق ضمان الحقوق المالية، جاءت المادة (16) لتؤكد أنه لا يجوز فصل الصحفي أو الإعلامي من عمله إلا بعد التحقيق معه، وإخطار النقابة بمبررات الفصل، ومرور ستين يومًا من تاريخ الإخطار تتولى خلالها النقابة محاولة التوفيق بين الطرفين. وإذا لم تنجح جهود التوفيق، تُطبق أحكام قانون العمل بشأن فصل العامل، ولا يجوز وقف راتبه أو ملحقاته خلال فترة التوفيق.
ورغم وضوح هذه المواد التي تشكل سياجًا قانونيًا يفترض أن يضمن حقوق الصحفيين المادية والمهنية، فإن المؤسسات الصحفية في معظمها تضرب بها عرض الحائط، تاركة العاملين في مواجهة مباشرة مع واقع اقتصادي متدهور دون حماية قانونية فعّالة.
ونخلص مما سبق إلى أن المعركة التي يخوضها الصحفيون في مصر لم تعد مجرد صراع من أجل الأجر، بل صراع من أجل استدامة الصحافة نفسها؛ باعتبارها رسالة وطنية تهتم بالشأن العام، وتعزز الحريات وحقوق الإنسان، وتدافع عن حق المجتمع في المعرفة.
.jpg)